فصل: بابُ ما يقولُه ويفعلُه مَنْ تكلَّمَ بكلامٍ قبيح

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الأذكار المنتخب من كلام سيد الأبرار **


 فصل‏:‏ يكره أن يسألُ بوجه اللّه تعالى غير الجنة‏.‏

32/965 روينا في سنن أبي داود، عن جابر رضي اللّه عنه، قال‏:‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يُسألُ بِوَجْهِ اللَّهِ إلاَّ الجَنَّةُ‏"‏‏.‏(1)

 فصل‏:‏ يُكره منعُ من سألَ باللّه تعالى وتشفَّع به‏.‏

33/966 روينا في سنن أبي داود والنسائي، بأسانيد الصحيحين، عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال‏:‏قال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَنْ اسْتَعاذَ باللَّهِ فأعِيذُوهُ، وَمَنْ سألَ باللَّهِ تَعالى فأعْطُوهُ، وَمَنْ دَعاكُمْ فأجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ، فإنْ لَمْ تَجِدُوا ما تُكافِئُونَهُ فادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أنَّكُمْ قَدْ كافأْتُمُوهُ‏"‏‏.‏‏(2)

 فصل‏:‏الأشهرُ أنه يُكره أن يُقال‏:‏ أطالَ اللّه بقاءَك‏.‏ قال أبو جعفر النحّاس في كتابه ‏"‏صناعة الكتاب‏"‏‏:‏ كَرِهَ بعضُ العلماء قولهم‏:‏ أطالَ اللّه بقاءك، ورخَّصَ فيه بعضُهم‏.‏ قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ أوَّلُ مَن كتب أطالَ اللّه بقاءَك الزنادقة‏.‏ وروي عن حماد بن سلمة رضي اللّه عنه أن مكاتبة المسلمين كانت من فلان إلى فلان، أما بعد‏:‏ سلامٌ عليك، فإني أحمدُ اللّه الذي لا إِله إِلاَّ هو، وأسألُه أن يصلِّيَ على محمد وعلى آل محمد‏.‏ ثم أحدثتِ الزنادقةُ هذه المكاتبات التي أوّلُها‏:‏ أطالَ اللَّه بقاءَك‏.‏

 فصل‏:‏ المذهبُ الصحيحُ المختار أنه لا يُكره قول الإِنسان لغيره‏:‏ فِداكَ أبي وأُمي، أو جعلني اللّه فداك، وقد تظاهرتْ على جواز ذلك الأحاديثُ المشهورة التي في الصحيحين وغيرهما، وسواءٌ كانَ الأبوان مسلمين أو كافرين، وكَرِهَ ذلك بعضُ العلماء إذا كانا مسلمين‏.‏ قال النحاس‏:‏ وكرهَ مالكُ بن أنس‏:‏ جعلني اللّه فداك، وأجازَه بعضُهم‏.‏ قال القاضي عياض‏:‏ ذهبَ جمهورُ العلماء إلى جواز ذلك، سواءٌ كان المفديُّ به مسلماً أو كافراً‏.‏ قلت‏:‏ وقد جاء من الأحاديث الصحيحة في جواز ذلك مالا يحصى وقد نبهت على جمل منها في صحيح مسلم

 فصل‏:‏ ومما يُذمّ من الألفاظ‏:‏ المِراء والجِدال والخُصومة‏.‏ قال الإِمام أبو حامد الغزالي‏:‏ المراء‏:‏ طعنُك في كلام الغير لإِظهار خَلل فيه، لغير غرض سوى تحقير قائله وإظهار مزيَّتِك عليه؛ قال‏:‏ وأما الجدالُ فعبارةٌ عن أمر يتعلّقُ بإظهار المذاهب وتقريرها‏.‏

قال‏:‏ وأما الخصومةُ فلِجَاجٌ في الكلام ليستوفيَ به مقصودَه من مال أو غيره، وتارة يكون ابتداءً وتارة يكون اعتراضاً؛ والمِراء لا يكون إلا اعتراضاً‏.‏ هذا كلام الغزالي‏.‏

واعلم أن الجدال قد يكون بحقّ، وقد يكون بباطل، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ إِلاَّ بالَّتِي هِيَ أحْسَنُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏41‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجادِلْهُمْ بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏125‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ما يُجادِلُ في آياتِ اللَّهِ إلاَّ الَّذِينَ كَفَروا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏4‏]‏ فإن كان الجدالُ للوقوفِ على الحقّ وتقريرِه كان محموداً، وإن كان في مدافعة الحقّ أو كان جدالاً بغير علم كان مذموماً، وعلى هذا التفصيل تنزيلُ النصوص الواردة في إباحته وذمّه، والمجادلة والجدال بمعنى، وقد أوضحتُ ذلك مبسوطاً في تهذيب الأسماء واللغات‏.‏

قال بعضُهم‏:‏ ما رأيتُ شيئاً أذهبَ للدين ولا أنقصَ للمروءة ولا أضيعَ للذة ولا أشغلَ للقلب من الخصومة‏.‏ فإن قلتَ‏:‏ لا بُدَّ للإِنسان من الخصومة لاستبقاء حقوقه‏.‏ فالجوابُ ما أجابَ به الإِمامُ الغزالي أن الذمَّ المتأكّدَ إنما هو لمن خاصمَ بالباطل أو غير علمٍ كوكيل القاضي، فإنه يتوكَّلُ في الخصومة قبل أن يعرفَ أن الحقّ في أيّ جانب هو فيخاصمُ بغير علم‏.‏ ويدخلُ في الذمّ أيضاً مَن يطلبُ حَقَّه لكنه لا يقتصرُ على قدرِ الحاجة، بل يظهرُ اللددَ والكذبَ للإِيذاء والتسليط على خصمه، وكذلك من خَلَطَ بالخصومة، كلماتٍ تُؤذي، وليس له إليها حاجة في تحصيل حقه، وكذلك مَن يحملُه على الخصومة محضُ العِناد لقهر الخصم وكسره، فهذا هو المذموم، وأما المظلومُ الذي ينصرُ حجَّتَه بطريق الشرع من غير لَدَدٍ وإسرافٍ وزيادةِ لجاجٍ على الحاجة من غير قصدِ عنادٍ ولا إيذاء، ففعلُه هذا ليس حراماً، ولكن الأولى تركُه ما وجد إليه سبيلاً، لأنَّ ضبطَ اللسان في الخصومة على حدّ الاعتدال متعذّر، والخصومةُ تُوغرُ الصدورَ وتهيجُ الغضبَ، وإذا هاجَ الغضبُ حصلَ الحقدُ بينهما حتى يفرح كل واحد بمساءةِ الآخر، ويحزنُ بمسرّته ويُطلق اللسانَ في عرضه، فمن خاصمَ فقد تعرّضَ لهذه الآفات، وأقلُّ ما فيه اشتغالُ القلب حتى أنه يكون في صلاته وخاطره معلقٌ بالمحاجّة والخصومة فلا يَبقى حالُه على الاستقامة؛ والخصومةُ مبدأ الشرّ، وكذا الجِدال والمِراء‏.‏ فينبغي أن لا يفتحَ عليه بابَ الخصومة إلا لضرورة لا بُدَّ منها، وعند ذلك يُحفظُ لسانَه وقلبَه عن آفات الخصومة‏.‏

34/967 روينا في كتاب الترمذي، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما، قال‏:‏قال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كَفَى بِكَ إثْماً أنْ لا تَزَالَ مُخَاصِماً‏"‏‏.‏‏(‏ الترمذي ‏(‏1995‏)‏ وقال‏:‏ إنه حديث غريب؛ أي ضعيف‏.‏‏)‏

‏.‏ قلتُ‏:‏ القُحَم بضم القاف وفتح الحاء المهملة‏:‏ هي المهالك‏.‏

 فصل‏:‏ يُكره التقعيرُ في الكلام بالتشدّق وتكلّف السجع والفَصاحة والتصنّع بالمقدمات التي يَعتادُها المتفاصحون وزخارف القول، فكلُّ ذلك من التكلُّف المذموم، وكذلك تكلّف السجع، وكذلك التحريّ في دقائق الإِعراب ووحشي اللغة في حال مخاطبة العوامّ؛ بل ينبغي أن يقصدَ في مخاطبته لفظاً يفهمُه صاحبُه فهماً جليّاً ولا يستثقلُه‏.‏

35/968 روينا في كتابي أبي داود والترمذي، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما؛أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ البَلِيغَ مِنَ الرّجالِ الَّذي يَتَخَلَّل بِلِسانِهِ كما تَتَخَلَّلُ البَقَرَةُ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ (3)

36/969 وروينا في صحيح مسلم، عن ابن مسعود رضي اللّه عنه؛أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ‏"‏ قالها ثلاثاً‏.‏ ‏(4) قال العلماء‏:‏ يعني بالمتنطعين‏:‏ المبالغين في الأمور‏.‏

37/970 وروينا في كتاب الترمذي عن جابر رضي اللّه عنه؛أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إنَّ مِنْ أحَبِّكُمْ إليَّ وأقْرَبِكُمْ مِنّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ أحاسِنُكُمْ أخْلاقاً، وَإنَّ أبْغَضَكُمْ إليَّ وأبْعَدَكُمْ مِنِّي يَوْمَ القِيامَةِ الثَّرْثارُونَ وَالمُتَشَدّقُونَ وَالمُتَفَيْقِهُونَ، قالوا‏:‏ يا رسول اللّه قد علمنا الثرثارون والمتشدّقون، فما المتفيقهون‏؟‏ قال‏:‏ المُتَكَبِّرُون‏"‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏ قال‏:‏ والثرثار‏:‏ هو الكثير الكلام؛ والمتشدّقُ‏:‏ مَن يتطاولُ على الناس في الكلام ويبذو عليهم‏.‏ ‏(5) ، وقال‏:‏ هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وفي الباب عن أبي هريرة‏.‏

 فصل‏:‏ ويُكره لمن صلى العشاء الآخرة أن يتحدَّثَ بالحديث المباح في غير هذا الوقت وأعني بالمُباح الذي استوى فعله وتركه‏.‏ فأما الحديث المحرّم في غير هذا الوقت أو المكروه فهو في هذا الوقت أشدّ تحريماً وكراهة‏.‏ وأما الحديثُ في الخير كمذاكرة العلم وحكايات الصالحين ومكارم الأخلاق والحديث مع الضيف فلا كراهةَ فيه، بل هو مستحبّ، وقد تظاهرت الأحاديثُ الصحيحةُ به، وكذلك الحديثُ للغدر والأمور العارضة لا بأس به، وقد اشتهرت الأحاديثُ بكل ما ذكرتُه، وأنا أُشيرُ إلى بعضها مختصراً، وأرمزُ إلى كثير منها‏.‏‏)‏

واعلم أنه لا يدخلُ في الذمّ تحسين ألفاظ الخطب والمواعظ إذا لم يكن فيها إفراط وإغراب لأن المقصودَ منها تهييج القلوب إلى طاعة اللّه عزّ وجلّ، ولحسن اللفظ في هذا أثر ظاهر‏.‏

38/971 روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي بَرزةَ رضي اللّه عنه؛أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يكرهُ النومَ قبل العِشاء والحديثَ بعدَها‏.‏ (6)

وأما الأحاديث بالترخيص في الكلام للأمور التي قدّمتُها فكثيرةٌ‏.‏

39/972 فمن ذلك حديث ابن عمر في الصحيحين‏:‏أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلَّى العشاءَ في آخر حياته، فلما سلَّم قال‏:‏ ‏"‏أرأيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فإنَّ على رأسِ مِئَةِ سَنَةٍ لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ على ظَهْرِ الأرْضِ اليَوْمَ أحَدٌ‏"‏‏.‏(7)

40/973 ومنها حديث أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه، في صحيحيهما؛أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعتم بالصلاة حتى ابهارّ الليلُ، ثم خرجَ رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم فصلَّى بهم، فلما قضَى صلاته قال لمن حضره‏:‏ ‏"‏على رِسْلِكُمْ أُعَلِّمْكُمْ، وأبْشِرُوا أنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللَّه عَلَيْكُمْ أنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أحَدٌ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرَكُمْ‏"‏ أو قال‏:‏ ‏"‏ما صَلَّى أحَدٌ هَذِهِ السَّاعَةَ غَيْرَكُمْ‏"‏‏.‏(8)

41/974 ومنها حديث أنس في صحيح البخاري؛أنهم انتظروا النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم فجاءَهم قريباً من شطر الليل، فصلَّى بهم‏:‏ يعني العشاء قال‏:‏ ثم خطبَنا فقال‏:‏ ‏"‏ ألا إنَّ النَّاسَ قَدْ صَلُّوْا ثُمَّ رَقَدُوا، وَإنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا في صَلاةٍ ما انْتَظَرْتُمُ الصَّلاةَ‏"‏‏.‏

ومنها حديث ابن عباس (9) "‏ رضي اللّه عنهما، في مبيته في بيت خالته ميمونة قوله‏:‏ إن النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم صلَّى العشاءَ، ثم دخلَ فحدّثَ أهلَه، وقوله‏:‏ ‏"‏نَامَ الغُلَيْم‏؟‏‏"‏‏.‏(10)

ومنها حديث عبد الرحمن ‏(‏البخاري ‏(‏602‏)‏ ، ومسلم ‏(‏2057‏)‏ ‏.‏ وتقدم برقم 2/733‏) "‏ بن أبي بكر رضي اللّه عنهما في قصة أضيافه واحتباسه عنهم حتى صلّى العشاء، ثم جاء وكلَّمهم، وكلَّم امرأتَه وابنه وتكرّر كلامُهم، وهذان الحديثان في الصحيحين، ونظائرُ هذا كثيرة لا تنحصرُ، وفيما ذكرناه أبلغُ كفاية، وللّه الحمد‏.‏

 فصل‏:‏ يُكره أن تُسمَّى العشاء الآخرة العتمة، للأحاديث الصحيحة المشهورة في ذلك ويُكره أيضاً أن تُسمَّى المغرب عشاء‏.‏

42/975 روينا في صحيح البخاري، عن عبد اللّه بن مُغَفّل المزني رضي اللّه عنه ـ وهو بالغين المعجمة ـ قال‏:‏قال رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تَغْلِبَنَّكُمُ الأَعْرَابُ على اسمِ صَلاتِكُمُ المَغْرِبِ‏"‏ قال‏:‏ وتقول الأعرابُ‏:‏ هي العشاء‏.‏ (11)

وأما الأحاديث الواردة بتسمية عَتَمَةً كحديث‏:‏ ‏"‏لو يَعْلَمُونَ ما في الصُّبْحِ وَالعَتَمَةِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً‏"‏ ‏(12) عنها من وجهين‏:‏ أحدهما أنها وقعتْ بياناً لكون النهي ليس للتحريم بل للتنزيه‏.‏ والثاني أنه خُوطبَ بها مَن يخافُ أنه يلتبس عليه المراد لو سمَّاها عشاءً‏.‏

وأما تسمية الصبح غداةً فلا كراهة فيه على المذهب الصحيح، وقد كثرتِ الأحاديثُ الصحيحةُ في استعمال غداة، وذكر جماعة من أصحابنا كراهة ذلك، وليس بشيء، ولا بأسَ بتسمية المغرب والعشاء عشاءين، ولا بأس بقول العشاء الآخرة‏.‏ وما نُقل عن الأصمعي أنه قال‏:‏ لا يُقال العشاء الآخرة فغلط ظاهر، فقد ثبتَ في صحيح مسلم ‏(13)‏ ؛ أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أيُّمَا امْرأةٍ أصَابَتْ بَخُوراً فَلا تَشْهَدْ مَعَنا العِشاءَ الآخِرَةَ‏"‏‏.

وثبت في ذلك كلامُ خلائقَ لا يُحصون من الصحابة في الصحيحين وغيرهما، وقد أوضحتُ ذلك كلَّه بشواهده في تهذيب الأسماء واللغات، وباللّه التوفيق‏.‏

 فصل‏:‏ ومما يُنهى عنه إفشاءُ السرّ، والأحاديثُ فيه كثيرة، وهو حرامٌ إذا كان فيه ضررٌ أو إيذاء‏.‏

43/976 روينا في سنن أبي داود والترمذي، عن جابر رضي اللّه عنه قال‏:‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بالحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أمانَةٌ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ (14)

 فصل‏:‏ يُكره أن يُسألَ الرجلُ‏:‏ فيم ضربَ امرأتَه‏؟‏ من غير حاجة‏.‏

قد روينا في أوّل هذا الكتاب في حفظ اللسان والأحاديث الصحيحة في السكوت عمّا لا تظهر فيه المصلحة، وذكرنا الحديث الصحيح ‏"‏منْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ ما لا يَعْنِيه‏"(15)

44/977 وروينا في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه، عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه،

عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا يُسألُ الرَّجُلُ‏:‏ فيمَ ضَرَبَ امْرأتَهُ‏"‏‏.‏‏(16)

 فصل‏:‏ أما الشعر فقدروينا في مسند أبي يعلى الموصلي (17)‏ ، بإسناد حسن،

عن عائشة رضي اللّه عنهما، قالت‏:‏ سُئل رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الشعر فقال‏:‏ ‏"‏هُوَ كلامٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ‏"‏ قال العلماء‏:‏ معناه‏:‏ أنَّ الشعرَ كالنثر، لكن التجرّدَ له والاقتصارَ عليه مذمومٌ‏.‏ وقد ثبتَت الأحاديثُ الصحيحةُ بأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سمع الشعرَ، وأمرَ حسان بن ثابت بهجاء الكفّار‏.‏ وثبتَ أنه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً‏"‏ ‏(18) وكل ذلك على حسب ما ذكرناه‏.‏

 فصل‏:‏ ومما يُنهى عنه الفحشُ، وبذاءةُ اللسان؛ والأحاديثُ الصحيحة فيه كثيرة معروفة‏.‏ ومعناه‏:‏ التعبيرُ عن الأمور المستقبحة بعبارة صريحة، وإن كانتْ صحيحةً والمتكلّمُ بها صادق، ويقعُ ذلك كثيراً في ألفاظ الوقاع ونحوها‏.‏ وينبغي أن يستعملَ في ذلك الكنايات ويعبّر عنها بعبارة جميلة يُفهم بها الغرضُ، وبهذا جاءَ القرآن العزيز والسنة الصحيحة المكرّمة، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏187‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ تَأخُذُونَهُ وَقَدْ أفْضَى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏21‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏ والآيات والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة‏.‏

قال العلماء‏:‏ فينبغي أن يستعملَ في هذا وما أشبهَه من العبارات التي يُستحيى من ذكرها بصريح اسمها الكنايات المفهمة، فيُكنّي عن جماع المرأة بالإِفضاءِ والدخولِ والمعاشرةِ والوِقاع ونحوها، ولا يُصرّح بالنّيل والجماع ونحوهما، وكذلك يُكنّي عن البول والتغوّط بقضاء الحاجة والذهاب إلى الخلاء، ولا يصرّحُ بالخِرَاءة والبول ونحوهما، وكذلك ذكرُ العيوب كالبرص والبَخَر والصُّنان وغيرها، يعبّر عنها بعبارات جميلة يُفهم منها الغرض، ويُلحق بما ذكرناه من الأمثلة ما سواه‏.‏

واعلم أن هذا كلَّه إذا لم تدعُ حاجةٌ إلى التصريح بصريح اسمه، فإن دعتْ حاجةٌ لغرض البيان والتعليم وخِيفَ أن المخاطَب لا يفهم المجاز، أو يفهمُ غيرَ المراد صرّح حينئذ باسمه الصريح ليحصلَ الإِفهامُ الحقيقي ‏,‏وعلى هذا يحمل ما جاء من التصريح في الأحاديث بمثل هذا فإن ذلك محمول على الحاجة كما ذكرنا‏,‏ فإن تحصيل الإفهام في هذا أولى من مراعاة مجرّد الأدب، وباللّه التوفيق‏.‏

45/978 روينا في كتاب الترمذي، عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال‏:‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطَّعَّانِ وَلا اللَّعَّانِ وَلا الفاحِشِ وَلا البَذِيء‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ (19)

46/979 وروينا في كتابي الترمذي وابن ماجه، عن أنس رضي اللّه عنه قال‏:‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما كان الفُحْشُ في شَيْءٍ إلاَّ شانَهُ، وَما كانَ الحَياءُ في شَيْءٍ إلاَّ زَانَهُ‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن‏.‏ (20)

 فصل‏:‏ يحرمُ انتهارُ الوالد والوالدة وشبههما تحريماً غليظاً، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ إيَّاهُ وبالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَريماً‏.‏ وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كما رَبَّيَاني صَغِيراً‏}‏ الآية‏[‏الإِسراء‏:‏23ـ 25‏]‏‏.‏

47/980 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما؛أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مِنَ الكَبائرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ، قالوا‏:‏ يا رسول اللّه، وهل يشتُم الرجلُ والديه‏؟‏ قال‏:‏ نَعَمْ، يَسُبّ أبَا الرَّجُلِ ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ‏"‏‏.‏‏(21)

48/981 وروينا في سنن أبي داود والترمذي،عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال‏:‏ كان تحتي امرأةٌ وكنتُ أُحبها، وكان عمرُ يكرهُها، فقال لي‏:‏ طلّقْها، فأبيتُ، فأتى عمرُ رضي اللّه عنه النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم فذكرَ ذلك له، فقال النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏طَلِّقْها‏"‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ (22)

 بابُ النهي عن الكَذبِ وبيان أقسامهِ

قد تظاهرتْ نصوصُ الكتاب والسنّة على تحريم الكذب في الجملة، وهو من قبائح الذنوب وفواحش العيوب‏.‏ وإجماعُ الأمة منعقدٌ على تحريمه مع النصوص المتظاهرة، فلا ضرورة إلى نقل أفرادها، وإنما المهمّ بيان ما يُستثنى منه والتنبيه على دقائقه، ويكفي في التنفير منه الحديث المتفق على صحته‏:‏

1/982 وهو ما رويناه في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ‏:‏ إذا حَدّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وَإِذَا اؤتُمن خَانَ‏"‏‏.‏‏(23)

2/983 وروينا في صحيحيهما عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما؛أن النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كانَ مُنافِقاً خالِصاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ نِفاقٍ حتَّى يَدَعَها‏:‏ إِذَا اؤتُمِن خانَ، وَإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خاصَمَ فَجَرَ‏"‏ وفي رواية مسلم ‏"‏إذا وعدَ أخلفَ‏"‏ بدل ‏"‏وإذا اؤتُمِن خان‏"‏‏.‏‏(24)

وأما المستثنى منه‏:‏

3/984 فقد روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أُمّ كلثوم رضي اللّه عنها؛أنها سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِّي خَيْراً أوْ يَقُولُ خَيْراً‏"‏ هذا القدر في صحيحيهما‏.‏ وزاد مسلم في رواية له‏:‏ قالت أُمّ كلثوم‏:‏ ولم أسمعه يُرخِّصُ في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث ـ يعني‏:‏ الحرب، والإِصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته والمرأة زوجها‏.‏ ‏(25)‏فهذا حديث صريح في إباحة بعض الكذب للمصلحة، وقد ضبط العلماءُ ما يُباح منه‏.‏

وأحسنُ ما رأيتُه في ضبطه، ما ذكرَه الإِمامُ أبو حامد الغزالي فقال‏:‏ الكلامُ وسيلةٌ إلى المقاصد، فكلُّ مقصودٍ محمودٍ يُمكن التوصلُ إليه بالصدق والكذب جميعاً، فالكذبُ فيه حرامٌ لعدم الحاجة إليه، وإن أمكنَ التوصل إليه بالكذب ولم يمكن بالصدق فالكذبُ فيه مباحٌ إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحاً، وواجبٌ إن كان المقصود واجباً، فإذا اختفى مسلم من ظالم وسأل عنه‏:‏ وجبَ الكذبُ بإخفائه، وكذا لو كان عندَه أو عندَ غيره وديعة وسأل عنها ظالمٌ يُريدُ أخذَها وجبَ عليه الكذب بإخفائها، حتى لو أخبرَه بوديعةٍ عندَه فأخذَها الظالمُ قهراً، وجبَ ضمانُها على المُودع المُخبر، ولو استحلفَه عليها، لزمَه أن يَحلفَ ويورِّي في يمينه، فإن حلفَ ولم يورّ، حنثَ على الأصحّ، وقيل لا يحنثُ، وكذلك لو كان مقصودُ حَرْبٍ أو إصلاحِ ذاتِ البين أو استمالة قلب المجني عليه في العفو عن الجناية لا يحصل إلا بكذب، فالكذبُ ليس بحرام، وهذا إذا لم يحصل الغرضُ إلا بالكذب، والاحتياطُ في هذا كلّه أن يورّي؛ ومعنى التورية أن يقصدَ بعبارته مقصوداً صحيحاً ليس هو كاذباً بالنسبة إليه، وإن كان كاذباً في ظاهر اللفظ، ولو لم يقصد هذا بل أطلق عبارةَ الكذب فليس بحرام في هذا الموضع‏.‏ قال أبو حامد الغزالي‏:‏ وكذلك كل ما ارتبط به غرضٌ مقصودٌ صحيح له أو لغيره، فالذي له مثلُ أن يأخذَه ظالمٌ ويسألَه عن ماله ليأخذَه فله أن ينكرَه، أو يسألَه السلطانُ عن فاحشةٍ بينَه وبينَ اللّه تعالى ارتكبَها فله أن ينكرَها ويقول ما زنيتُ، أو ما شربتُ مثلاً‏.‏

وقد اشتهرتِ الأحاديث بتلقين الذين أقرّوا بالحدود الرجوع عن الإِقرار‏.‏ وأما غرضُ غيره، فمثل أن يُسأَلَ عن سرّ أخيه فينكرَهُ ونحو ذلك، وينبغي أن يُقابِلَ بين مَفسدةِ الكذب والمفسدةِ المترتبة على الصدق؛ فإن كانت المفسدةُ في الصدق أشدّ ضرراً فله الكذبُ، وإن كان عكسُه، أو شكّ، حَرُمَ عليه الكذبُ؛ ومتى جازَ الكذبُ فإن كان المبيحُ غرضاً يتعلّقُ بنفسه فيستحبّ أن لا يكذبَ، ومتى كان متعلقاً بغيره لم تجز المسامحةُ بحقّ غيره؛ والحزمُ تركه في كل موضعٍ أُبيحَ إلا إذا كان واجباً‏.‏

واعلم أن مذهبَ أهل السنّة أن الكذبَ هو الإِخبار عن الشيء، بخلاف ما هو، سواء تعمدتَ ذلك أم جهلته، لكن لا يأثمُ في الجهل وإنما يأثمُ في العمد، ودليلُ أصحابنا تقييد النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ‏"‏مَنْ كَذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ‏"‏ ‏(26)

 بابُ الحثِّ على التثّبت فيما يحكيهِ الإِنسانُ والنهي عن التحديث بكلِّ ما سمعَ إذا لم يظنّ صحته

قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤولاً‏}‏ ‏[‏الإِسراء‏:‏36‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 18‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ رَبَّكَ لَبالمِرْصَادِ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏14‏]‏‏.‏

1/985 وروينا في صحيح مسلم، عن حفص بن عاصم التابعي الجليل عن أبي هريرة رضي اللّه عنه؛أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏كَفَى بالمَرْءِ كَذِباً أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ ما سَمِعَ‏"‏ (27)‏ورواه مسلم من طريقين‏:‏ أحدهما هكذا‏.‏ والثاني عن حفص بن عاصم، عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم مرسلاً لم يذكر أبا هريرة، فتُقدَّمُ روايةُ مَن أثبت أبا هريرة، فإن الزيادة من الثقة مقبولة، وهذا هو المذهب الصحيحُ المختارُ الذي عليه أهلُ الفقه والأصول والمحقّقون من المحدّثين، أن الحديث إذا روي من طريقين أحدهما مرسلٌ والآخر متصلٌ، قدّم المتصل وحكم بصحة الحديث، وجاز الاحتجاج به في كل شيء من الأحكام وغيرها‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

2/986 وروينا في صحيح مسلم،عن عمرَ بن الخطاب رضي اللّه عنه قال‏:‏ بحسبِ المرءِ من الكذبِ أن يحدّثِ بكلّ ما سمعَ‏.‏ وروينا في صحيح مسلم، عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه مثله‏.‏ (28)

والآثارُ في هذا الباب كثيرة‏.‏

3/987 وروينا في سنن أبي داود، بإسناد صحيح، عن أبي مسعود، أو حذيفة بن اليمان، قال‏:‏سمعتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا‏"‏‏.‏‏(29)

قال الإِمام أبو سليمان الخطابي فيما رويناه عنه في معالم السنن‏:‏ أصلُ هذا الحديث أن الرجلَ إذا أرادَ الظعن في حاجة والسير إلى بلد ركب مطية وسار حتى يبلغ حاجته، فشبّهَ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم ما يقدِّمُ الرجلُ أمامَ كلامه ويتوصل به إلى حاجته من قولهم‏:‏ ‏(‏زعموا‏)‏ بالمطيّة، وإنما يُقال‏:‏ ‏(‏زعموا‏)‏ في حديث لا سند له ولا ثبت، إنما هو شيء يُحكى على سبيل البلاغ، فذمّ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم من الحديث ما هذا سبيلُه، وأمر بالتوثق فيما يحكيه والتثبت فيه، فلا يَرويه حتى يكون معزوّاً إلى ثبت، هذا كلامُ الخطابي، واللّه أعلم‏.‏

 بابُ التعريض والتورية

اعلم أن هذا الباب من أهمّ الأبواب، فإنه مما يكثرُ استعمالُه وتعمُّ به البلوى، فينبغي لنا أن نعتني بتحقيقه، وينبغي للواقف عليه أن يتأملَه ويعملَ به، وقد قدَّمنا في الكذب من التحريم الغليظ، وما في إطلاق اللسان من الخطر، وهذا البابُ طريقٌ إلى السلامة من ذلك‏.‏ واعلم أن التوريةَ والتعريضَ معناهما‏:‏ أن تُطلقَ لفظاً هو ظاهرٌ في معنى وتريدُ به معنىً آخر يتناوله ذلك اللفظ، لكنه خلافُ ظاهره، وهذا ضربٌ من التغرير والخداع‏.‏ قال العلماء‏:‏ فإن دعتِ إلى ذلك مصلحةٌ شرعيةٌ راجحةٌ على خداعِ المخااطب أو حاجة لا مندوحةَ عنها إلا بالكذب فلا بأس بالتعريض، وإن لم يكن شيءٌ من ذلك فهو مكروهٌ وليس بحرام، إلا أن يُتوصَل به إلى أخذ باطل أو دفع حقّ، فيصيرُ حينئذ حراماً، هذا ضابطُ الباب‏.‏

فأما الآثار الواردةُ فيه، فقد جاء من الآثار ما يُبيحه وما لا يُبيحه، وهي محمولةٌ على هذا التفصيل الذي ذكرناه‏.‏ فمما جاء في المنع‏:‏

1/988 ما رويناه في سنن أبي داود، بإسناد فيه ضعفٌ لكن لم يُضَعِّفه أبو داود، فيقتضي أن يكون حسناً عنده كما سبق بيانه، عن سفيان بن أسد ـ بفتح الهمزة ـ رضي اللّه عنه قال‏:‏

سمعتُ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏كَبُرَتْ خِيانَةً أنْ تُحَدِّثَ أخاكَ حَدِيثاً هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ وأنْتَ بِهِ كاذِبٌ‏"‏‏.‏(30)

وروينا عن ابن سيرين رحمه اللّه أنه قال‏:‏ الكلامُ أوسعُ من أن يكذب ظريفٌ‏.‏ مثال التعريض المباح ما قاله النخعي رحمه اللّه‏:‏ إذا بلغ الرجلَ عنك شيءٌ قلتَه فقل‏:‏ اللّه يعلم ما قلتُ من ذلك من شيء، فيتوهم السامعُ النفيَ ومقصودُك اللّه يعلم الذي قلتُه‏.‏ وقال النخعيُّ أيضاً‏:‏ لا تقلْ لابنك‏:‏ أشتري لك سكراً، بل قل‏:‏ أرأيتَ لو اشتريت لك سكراً‏؟‏ وكان النخعي إذا طلبه رجلٌ قال للجارية‏:‏ قولي له اطلبه في المسجد‏.‏ وقال غيره‏:‏ خرج أبي في وقت قبل هذا‏.‏ وكان الشعبي يخطّ دائرة ويقول للجارية‏:‏ ضعي أصبعك فيها وقولي‏:‏ ليس هو هاهنا‏.‏ ومثل هذا قول الناس في العادة لمن دعاهُ لطعام أنا على نيّة؛ موهماً أنه صائم ومقصودُه على نيّة ترك الأكل؛ ومثلُه‏:‏ أبصرتَ فلاناً‏؟‏ فيقول ما رأيتُه‏:‏ أي ما ضربتُ رئته‏.‏ ونظائرُ هذا كثيرة‏.‏ ولو حلف على شيء من هذا وورَّى في يمينه لم يحنثْ، سواء حلفَ باللّه تعالى أو حلفَ بالطلاق أو بغيره، فلا يقعُ عليه الطلاق ولا غيره، وهذا إذا لم يحلّفه القاضي في دعوى؛ فإن حلَّفَه القاضي في دعوى فالاعتبار بنيّة القاضي إذا حلَّفه باللّه تعالى، فإن حلّفه بالطلاق بالاعتبار بنيّة الحالف، لأنه لا يجوز للقاضي تحليفه بالطلاق فهو كغيره من الناس، واللّه أعلم‏.‏

قال الغزالي‏:‏ ومن الكذب المحرّم الذي يُوجب الفسقَ ما جرتْ به العادةُ في المبالغة كقوله‏:‏ قلتُ لك مِئة مرّة، وطلبتُك مِئةَ مرّة ونحوه بأنه لا يُراد به تفهيم المرات بل تفهيم المبالغة، فإن لم يكن طلبَه إلا مرّة واحدة كان كاذباً، وإن طلبه مرّات لا يُعتاد مثلُها في الكثرة لم يأثم، وإن لم يبلغْ مئة مرّة وبينهما درجات يتعرّضُ المبالغُ للكذب فيها‏.‏

قلت‏:‏ ودليل جواز المبالغة وأنه لا يُعدّ كذباً‏:‏

2/989 ما رويناه في الصحيحين،أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أمَّا أبُو الجَهْمِ فَلا يَضَعُ العَصَا عَنْ عاتِقِهِ، وأمَّا مُعاويَةُ فَلا مالَ لَهُ‏"‏‏(31)(‏ البخاري ‏(‏5321‏)‏ ، ومسلم ‏(‏1480‏)‏ ، وقد تقدم في باب ما يباح من الغيبة رقم 317 ص 529‏.‏‏)‏ "(‏ البخاري ‏(‏5321‏)‏ ، ومسلم ‏(‏1480‏)‏ ، وقد تقدم في باب ما يباح من الغيبة رقم 317 ص 529‏.‏‏)‏ "(‏ البخاري ‏(‏5321‏)‏ ، ومسلم ‏(‏1480‏)‏ ، وقد تقدم في باب ما يباح من الغيبة رقم 317 ص 529‏.‏‏)‏ "(‏ البخاري ‏(‏5321‏)‏ ، ومسلم ‏(‏1480‏)‏ ، وقد تقدم في باب ما يباح من الغيبة رقم 317 ص 529‏.‏‏)‏ "(‏ البخاري ‏(‏5321‏)‏ ، ومسلم ‏(‏1480‏)‏ ، وقد تقدم في باب ما يباح من الغيبة رقم 317 ص 529‏.‏‏)‏"(‏ البخاري ‏(‏5321‏)‏ ، ومسلم ‏(‏1480‏)‏ ، وقد تقدم في باب ما يباح من الغيبة رقم 317 ص 529‏.‏‏)‏ ومعلوم أنه كان له ثوب يلبسه‏.‏ وأنه كان يضعُ العصا في وقت النوم وغيره، وباللّه التوفيق‏.‏

 بابُ ما يقولُه ويفعلُه مَنْ تكلَّمَ بكلامٍ قبيح

قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَ إمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ باللَّهِ‏}‏ ‏[‏فصّلت‏:‏36‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فإذَا هُمْ مُبْصِرونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 201‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا على ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏.‏ أُولَئِكَ جَزَاؤُهم مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيها وَنعْمَ أجْرُ العامِلِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 135ـ136‏]‏‏.‏

1/990 وروينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه؛أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مَنْ حَلَفَ فَقالَ في حَلِفِهِ باللاَّتِ والعُزَّى فَلْيَقُلْ‏:‏ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَمَنْ قالَ لِصَاحِبِهِ‏:‏ تَعالَ أُقامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ‏"‏‏.‏‏(‏ البخاري ‏(‏4860‏)‏ ، ومسلم ‏(‏1647‏)‏ ، ويُفيد الحديث‏:‏

أـ حرمة الحلف بالأصنام، فإن مَن حلف بها معظِّماً لها كان كافراً ويجب عليه تجديد إيمانه‏.‏

ب ـ حرمة الدعوة إلى القمار، وأن كفارة ذلك التوبة منها، والإِسراع إلى التصدّق بما تيسر له‏.‏‏)">‏

واعلم أن مَن تكلم بحرام أو فعله وجب عليه المبادرة إلى التوبة، ولها ثلاثة أركان‏:‏ أن يقلع في الحال عن المعصية، وأن يندمَ على ما فعل، وأن يعزمَ أن لا يعود إليها أبداً، فإن تعلَّق بالمعصية حق آدمي وجب عليه مع الثلاثة رابع، وهو ردّ الظلامة إلى صاحبها أو تحصيل البراءة منها، وقد تقدم بيان هذا، وإذا تابَ مِنْ ذنبٍ فينبغي أن يتوبَ من جميع الذنوب؛ فلو اقتصرَ على التوبة من ذنب صحَّت توبتُه منه؛ وإذا تابَ من ذنب توبةً صحيحةً كما ذكرنا ثم عاد إليه في وقت أثم بالثاني ووجب عليه التوبة منه، ولم تبطلْ توبتُه من الأوّل؛ هذا مذهبُ أهل السنّة خلافاً للمعتزلة في المسألتين، وباللّه التوفيق‏.‏

 بابٌ في ألفاظٍ حُكي عن جماعةٍ من العلماء كراهتُها وليستْ مكروهةً

اعلم أن هذا البابَ مما تدعو الحاجةُ إليه لئلا يغترّ بقولٍ باطلٍ ويعوّل عليه‏.‏

واعلم أن أحكامَ الشرع الخمسة، وهي‏:‏ الإِيجابُ، والندبُ، والتحريمُ، والكراهةُ، والإِباحة، لا يثبتُ شيء منها إلا بدليل، وأدلة الشرع معروفة، فما لا دليلَ عليه لا يُلتفتُ إليه ولا يحتاج إلى جواب، لأنه ليس بحجة ولا يُشتغل بجوابه؛ ومع هذا فقد تبرعَ العلماءُ في مثل هذا بذكر دليلٍ على إبطاله، ومقصودي بهذه المقدمة أنّ ما ذكرتُ أن قائلاً كرهَه ثم قلت‏:‏ ليس مكروهاً، أو هذا باطلٌ أو نحو ذلك، فلا حاجةً إلى دليل على إبطاله وإن ذكرتُه كنتُ متبرّعاً به، وإنما عقدتُ هذا الباب لأُبيِّن الخطأَ فيه من الصواب لئلا يُغترّ بجلالة مَن يُضاف إليه هذا القول الباطل‏.‏

واعلم أني لا أُسمّي القائلين بكراهة هذه الألفاظ لئلا تسقطَ جلالتُهم ويُساء الظنّ بهم، وليس الغرض القدح فيهم، وإنما المطلوب التحذير من أقوال باطلة نُقلت عنهم، سواء أصحّتْ عنهم أم لم تصحّ، فإن صحَّتْ لم تقدحْ في جلالتهم كما عرف، وقد أُضيف بعضُها لغرض صحيح بأن يكونَ ما قاله محتملاً فينظر غيري فيه، فلعلّ نظره يُخالف نظري فيعتضدُ نظرُه بقول هذا الإِمام السابق إلى هذا الحكم، وباللّه التوفيق‏.‏

فمن ذلك ما حكاهُ الإِمامُ أبو جعفر النحاس في كتابه ‏"‏شرح أسماء اللّه تعالى سبحانه‏"‏ عن بعض العلماء أنه كره أن يُقال‏:‏ تصدّق اللّه عليكَ، قال‏:‏ لأن المتصدّقَ يرجو الثواب‏.‏ قلتُ‏:‏ هذا الحكم خطأ صريح وجهلٌ قبيح، والاستدلال أشدُّ فساداً‏.‏

وقد ثبت في صحيح مسلم ‏(32)عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال في قصر الصلاة‏:‏ ‏"‏صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ‏"‏‏.‏

 فصل‏:‏ ومن ذلك ما حكاهُ النحَّاسُ أيضاً عن هذا القائل المتقدّم أنه كره أن يُقال‏:‏ اللَّهمّ أعتقني من النار، قال‏:‏ لأنه لا يعتق إلا مَن يطلب الثواب‏.‏ قلتُ‏:‏ وهذه الدعوى والاستدلال من أقبح الخطأ وأرذل الجهالة بأحكام الشرع، ولو ذهبتُ أتتبعُ الأحاديثَ الصحيحة المصرّحة بإعتاق اللّه تعالى مَن شاء من خلقه لطال الكتاب طولاً مُمِلاًّ، وذلك كحديث ‏"‏مَنْ أعْتَقَ رَقَبَةً أعْتَقَ اللَّهُ تَعالى بِكُلِّ عُضْو مِنْها عُضْواً مِنْهُ مِنَ النَّارِ‏"‏ (33)‏ وحديث ‏"‏ما مِنْ يَوْمٍ أكْثَرُ أنْ يُعْتِقَ اللَّهُ تَعالى فِيهِ عَبْداً مِنَ النّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَة‏"‏ (34)

 فصل‏:‏ ومن ذلك قولُ بعضهم‏:‏ يُكره أن يقولَ افعلْ كذا على اسم اللّه، لأن اسمَه سبحانه على كلِّ شيءٍ‏.‏ قال القاضي عياض وغيرُه‏:‏ هذا القول غلط، فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة‏:‏ أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه في الأضحية‏:‏ ‏"‏اذْبَحُوا على اسْمِ اللّه‏"(35) أي قائلين باسم اللّه‏.‏

 فصل‏:‏ ومن ذلك ما رواه النحاسُ عن أبي بكر محمد بن يحيى قال‏:‏ وكان من الفقهاء الأدباء العلماء، قال‏:‏ لا تقلْ‏:‏ جمعَ اللّه بيننا في مستقرُ رحمته، فرحمةُ اللّه أوسعُ من أن يكون لها قرار؛ قال‏:‏ لا تقلْ‏:‏ ارحمنا برحمتك‏.‏ قلت‏:‏ لا نعلمُ لما قاله في اللفظين حجة، ولا دليلَ له فيما ذكره، فإن مرادَ القائل بمستقرّ الرحمة‏:‏ الجنة، ومعناه‏:‏ جمعَ بيننا في الجنة التي هي دار القرار ودار المقامة ومحل الاستقرار، وإنما يدخلها الداخلون برحمة اللّه تعالى، ثم من دخلَها استقرّ فيها أبداً، وأمِنَ الحوادث والأكدار، وإنما حصل له ذلك برحمة اللّه تعالى، فكأنه يقول‏:‏ اجمع بيننا في مستقرّ نناله برحمتك‏.‏

 فصل‏:‏ ومن ذلك ما حكاهُ النحَّاسُ عن هذا المذكور، قال‏:‏ لا تقل‏:‏ توكّلتُ على ربي الربّ الكريم، وقل‏:‏ توكلت على ربي الكريم‏.‏ قلتُ‏:‏ لا أصلَ لما قال‏.‏

 فصل‏:‏ روى النحّاسُ عن أبي بكر المتقدم قال‏:‏ لا يقلْ‏:‏ اللهمَّ أجِرْنا من النار ولا يقل‏:‏ اللهمْ ارزقنا شفاعةَ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم فإنما يُشفعُ لمن استوجبَ النار‏.‏ قلتُ‏:‏ هذا خطأ فاحش وجَهالة بيّنة، ولولا خوفُ الاغترار بهذا الغلط وكونه قد ذكرَ في كتب مصنفه لما تجاسرتُ على حكايته، فكم من حديث في الصحيح جاء في ترغيب المؤمنين الكاملين بوعدهم شفاعة النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، لقوله صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مَنْ قالَ مِثْلَ ما يَقُولُ المُؤَذِّنُ حَلَّتْ لَهُ شَفاعَتي‏"‏ (36)‏ وغير ذلك‏.‏

ولقد أحسن الإِمام الحافظُ الفقيه أبو الفضل عِياض رحمه اللّه في قوله‏:‏ قد عُرف بالنقل المستفيض سؤالُ السلف الصالح رضي اللّه عنهم شفاعةَ نبيِّنا صلى اللّه عليه وسلم ورغبتهم فيها قال‏:‏ وعلى هذا لا يُلتفت إلى كراهة مَن كَرِهَ ذلك لكونها لا تكونُ إلا للمذنبين، لأنه ثبتَ في الأحاديث في صحيح مسلم (37)‏ وغيره إثبات الشفاعة لأقوام في دخولهم الجنة بغير حساب، ولقوم في زيادة درجاتهم في الجنة؛ قال‏:‏ ثمّ كل عاقل معترف بالتقصير، محتاجٌ إلى العفو، مشفقٌ من كونه من الهالكين؛ ويلزمُ هذا القائل أَنْ لا يدعوَ بالمغفرة والرحمة، لأنهما لأصحاب الذنوب، وكلُّ هذا خلافُ ما عُرف من دعاء السلف والخلف‏.‏

 فصل‏:‏ ومن ذلك ما حُكي عن جماعة من العلماء أنهم كرهوا أن يُسمَّى الطوافُ بالبيت شوطاً أو دوراً، قالوا‏:‏ بل يُقال للمرّة الواحدة طوفة، وللمرتين طوفتان، وللثلاث طوفات، وللسبع طواف‏.‏ قلتُ‏:‏ وهذا الذي قالوه لا نعلمُ له أصلاً، ولعلَّهم كرهوه لكونه من ألفاظ الجاهلية، والصوابُ المختار أنه لا كراهةَ فيه‏.‏

2/991 فقد روينا في صحيحي البخاري ومسلم، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال‏:‏ أمرهم رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يرملوا ثلاثةَ أشواط ولم يمنعْه أن يأمرَهم أن يرملوا الأشواطَ كلَّها إلا الإِبقاء عليهم‏.‏ (38)

 فصل‏:‏ ومن ذلك‏:‏ صُمنا رمضانَ، وجاء رمضانُ، وما أشبه ذلك إذا أُريد به الشهر‏.‏ واختلف في كراهته؛ فقال جماعة من المتقدمين‏:‏ يُكره أن يُقال رمضان من غير إضافة إلى الشهر، رُوي ذلك عن الحسن البصري ومجاهد‏.‏ قال البيهقي‏:‏ الطريق إليهما ضعيف؛ ومذهبُ أصحابنا أنه يُكره أن يُقال‏:‏ جاء رمضانُ، ودخل رمضانُ، وحضر رمضانُ، وما أشبه ذلك مما لا قرينة تدلّ على أن المرادَ الشهرُ، ولا يُكره إذا ذُكر معه قرينة تدلّ على الشهر، كقوله‏:‏ صمتُ رمضانَ، وقمتُ رمضانَ، ويجبُ صومُ رمضان،، وحضرَ رمضانُ الشهر المبارك، وشبه ذلك، هكذا قاله أصحابنا ونقله الإِمامان‏:‏ أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي في كتابه ‏"‏الحاوي‏"‏ وأبو نصر الصباغ في كتابه ‏"‏الشامل‏"‏ عن أصحابنا، وكذا نقله غيرُهما من أصحابنا عن الأصحاب مطلقاً، واحتجُّوا بحديث‏:‏

3/992 رويناه في سنن البيهقي، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، قال‏:‏قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تَقُولُوا رَمَضَانُ، فإنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أسْماءِ اللَّهِ تَعالى، وَلَكِنْ قُولُوا‏:‏ شَهْرُ رَمَضَانَ‏"‏ وهذا الحديث ضعيف ضعَّفه البيهقيُّ والضعف عليه ظاهر، ولم يذكرْ أحدٌ رمضانَ في أسماء اللّه تعالى مع كثرة مَنْ صنَّف فيها‏.‏ والصوابُ واللّه أعلم، ما ذهب إليه الإِمام أبو عبد اللّه البخاري في صحيحه وغير واحد من العلماء المحقِّقين أنه لا كراهةَ مطلقاً كيفما قال، لأن الكراهةَ لا تثبتُ إلا بالشرع، ولم يثبتْ في كراهته شيء، بل ثبتَ في الأحاديث جواز ذلك، والأحاديث فيه من الصحيحين وغيرهما أكثر من أن تُحصر‏.‏

ولو تفرَّغتُ لجمع ذلك رجوتُ أن يبلغ أحاديثه مئين، لكن الغرضَ يحصل بحديث واحد، ويكفي من ذلك كله‏:‏

4/993 ما رويناه في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي اللّه عنه؛أن رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أبْوَابُ الجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتِ الشَّياطِينُ ‏"(39)‏ منها صوم رمضان، وأشباهُ هذا كثيرةٌ معروفة‏.‏

 فصل‏:‏ ومن ذلك ما نُقل عن بعض المتقدمين أنه يُكره أن يقولَ‏:‏ سورة البقرة، وسورة الدخان، والعنكبوت، والروم، والأحزاب، وشبه ذلك؛ قالوا‏:‏ وإنما يُقال السورة التي يُذكر فيها البقرة، والسورة التي يُذكر فيها النساء وشبه ذلك‏.‏ قلتُ‏:‏ وهذا خطأ مخالف للسنّة، فقد ثبت في الأحاديث استعمال ذلك فيما لا يُحصى من المواضع كقوله صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الآيَتانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ مَنْ قَرأهُما في لَيْلَةٍ كَفَتَاه‏"(40) وهذا الحديث في الصحيحين وأشباهُه كثيرة لا تنحصر‏.‏

 فصل‏:‏ ومن ذلك ما جاء عن مُطرف رحمه اللّه أنه كره أن يقول‏:‏ إن اللّه تعالى يقول في كتابه؛ قال‏:‏ وإنما يُقال‏:‏ إن اللّه تعالى قال‏:‏ كأنه كره ذلك لكونه لفظاً مضارعاً، ومقتضاهُ الحالُ أو الاستقبالُ، وقول اللّه تعالى هو كلامُه، وهو قديم‏.‏ قلتُ‏:‏ وهذا ليس بمقبول، وقد ثبتَ في الأحاديث الصحيحة استعمالُ ذلك من جهات كثيرة، وقد نبَّهتُ على ذلك في شرح صحيح مسلم، وفي كتاب آداب القرّاء، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه يقول الحقّ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏4‏]‏‏.‏

وفي صحيح مسلم ‏(41) ، عن أبي ذرّ قال‏:‏ قال النبيّ صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِهَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏160‏]‏‏.‏